لقد أثار هذا المفهوم جدلًا واسعًا واهتمامًا متزايدًا منذ أن جرى تسليط الضوء عليه خلال برنامج سلوفينيا ضيف الشرف في معرض فرانكفورت للكتاب عام 2023.

قبل ذلك بعامين، في فعالية ريدماجين (Readmagine) 2021، نظّمنا يوم عمل كاملًا قبيل الجلسات التي عُقدت أمام جمهورٍ يضع الكمامات. كان ذلك تتويجًا لأشهرٍ من العمل، حاولنا فيه أن نقدّم إجابات أو نطلق جرس إنذار لعالم الكتاب في خضمّ الجائحة. آنذاك، لم يكن نطاق ريدماجين عالميًا بقدر ما كان أوروبيًا، إذ أردنا صياغة استجابة أوروبية في لحظة استثنائية. لقد شكّلت الظروف القاسية للجائحة فرصةً لتعزيز النهج الأوروبي (وما زلت أتساءل، في صيف 2025، عمّا إذا كان يمكننا اعتبار ذلك قد تحقق بالفعل).

قدّم مقرّرو مجموعات العمل الثلاث مقترحاتهم الأوروبية الواسعة النطاق: السياسات العامة الأوروبية عرضها إنريكو تورين، وتجديد نماذج الأعمال في أوروبا قدّمه خوسيه مانويل أنتا، بينما تناول ميها كوفاتش موضوع تعزيز القراءة.

ما زلت أذكر مدى قوة العرض الذي قدّمه ميها، ولم يكن مفاجئًا بالنسبة لي أن أجد الوضوح والأهمية في بيان ليوبليانا. قبل أيام قليلة، وخلال حديث صيفي مع البروفيسور كوفاتش، سألته لماذا قرّر منظمو الجناح السلوفيني أن يكون البيان حول القراءة هو الخيار المناسب.

شارك ميها إحساسه بما تركته لديه أجنحة “ضيف الشرف” الأخرى، حيث حملت رسائلها رغبةً في أن تُظهر حداثتها بشكل أساسي من خلال عرض أنواع مختلفة من التركيبات الفنية أو القطع الأثرية أو الأدوات والأجهزة الرقمية – أحيانًا ما تكون مرتبطة بالكتب، لكن في كثير من الأحيان لا علاقة لها بها – وأضاف قائلاً: «كانت الرسالة الضمنية أن الكتب والقراءة لم تعد ذات أهمية كبيرة. فكرتي – بصفتي أحد القيّمين المشاركين على البرنامج السلوفيني – كانت أن أسير عكس هذا التيار وأعيد الكتاب إلى مركز الجناح. إضافة إلى ذلك، كانت الفكرة أن نصدر بيانًا يوضّح لماذا ما زال لقراءة النصوص الطويلة والمعقّدة أهميتها».

وعندما كتبتُ نصوصًا وقدّمت محاضرات عن واقع القراءة الراهن وتحدّياتها، استخدمتُ مصطلح القراءة على مستوى أعلى بطرق متعدّدة. ولهذا السبب، يثير اهتمامي أن أستمع إلى تعريف ميها كوفاتش لهذا المفهوم: «من وجهة نظري، للقراءة على مستوى أعلى بُعدان. أولاً، هي إدراك أن هناك أنماطًا مختلفة من القراءة، لكل منها نتائج معرفية مغايرة. دعني أذكر مثالين فقط. عندما نتصفّح شبكة الإنترنت، فإننا نمرّ سريعًا على أنواع متنوّعة من الموارد المعلوماتية التي تكون عادة مزيجًا من المحتوى الصوتي والبصري والنصي؛ ونقوم بذلك من خلال تغييرات متلاحقة في التركيز، فنميل إلى ما يجذب انتباهنا أو ما نبحث عنه. في المقابل، عندما ننغمس في نص معقّد، يجب أن ينصبّ تركيزنا بالكامل على السرد المكتوب؛ وكما أظهرت مجموعة من الدراسات، فإن أفضل وسيط ممكن لهذا النوع من القراءة هو المطبوع. إن القراءة على مستوى أعلى تتطلّب فهم هذه الفروقات بين أنماط القراءة المختلفة، ومن ثمّ تكييف استراتيجياتنا القرائية تبعًا لذلك. وإلى جانب إدراك هذه الأنماط المختلفة، أرى أن قراءة النصوص الطويلة والمعقّدة تمثل جزءًا جوهريًا من القراءة على مستوى أعلى. وهناك سببان لذلك: الأول أن هذا النوع من القراءة يعدّ أداة تدريب مهمة للتفكير، والثاني أنني أخشى أننا نفقد هذه القدرة ونفشل في إدراك السبب الذي يجعل قراءة النصوص الخطية والمعقّدة أمرًا بالغ الأهمية».

يتشارك ميها وأنا في العمل والنقاش ضمن إطار مشروعات مختلفة (SIDT، ThinkPub…)، وقد اعترفتُ له بالمعارضة التي أواجهها عندما أدافع عن أهمية هذا المفهوم والحاجة الملحّة لبذل جهد مخصص في هذا المجال داخل النظام التعليمي أو عند صياغة سياسات القراءة. يردّ كوفاتش على هذا التشكيك قائلاً: «هناك بعض – دعني أسمّيها – الاعتراضات على هذا النوع من القراءة. أحدها أنها نخبوية. وهنا، إجابتي بسيطة: إنها ليست نخبوية، لأن أي شخص يمكنه اكتساب هذه القدرة متى ما توافرت الدافعية وظروف متكافئة للحصول على تعليم جيد. صحيح أن المفهوم مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالحضارة الغربية؛ لكنني أعتقد أنه – شأنه شأن ميكانيكا الكم – يخص الإنسانية جمعاء. اعتراض آخر هو أن ما يهمّ هو أن يقرأ الناس، بغض النظر عن تعقيد ما يقرؤونه. غير أن الدراسات التي أُجريت في هذا الشأن تُظهر أن هذا افتراض بلا أي أساس علمي: فالنتائج المعرفية مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بدرجة تعقيد النصوص التي يقرأها الفرد».

وأنا مقتنع بأن رؤيته الأكاديمية لتعريف القراءة على مستوى أعلى وأثرها الإيجابي في تنمية التفكير النقدي رؤية مفيدة للغاية، بدءًا من مقاربته لهذا المصطلح نفسه، إذ يقول: «دعوني أوضح أولاً أنني أرى مفهوم التفكير النقدي مفهومًا متضخمًا ومفرط الاستخدام، وأقترح بدلاً منه مصطلح التفكير التحليلي».

إن أثر القراءة على مستوى أعلى في تطوير التفكير التحليلي أثر واضح: «لفهم الحوار في فيلم أو مسلسل تلفزيوني، يحتاج المرء إلى معرفة أكثر العائلات اللفظية شيوعًا وعددها ثلاثة آلاف. أما لفهم نصوص أكثر تعقيدًا، مثل الروايات أو المقالات، فيلزم تعلّم ثمانية آلاف إلى تسعة آلاف جذر لغوي (lemma) [الجذر أو “lemma” يُقصد به الكلمة الأساسية وما يتفرع عنها من صيغ تصريفية، مثل: run, runs, ran, running، والتي تُعتبر كلها تنويعات للكلمة ذاتها]. وعليه، فإذا أراد المرء أن يناقش قضايا معقدة، فلا يمكنه القيام بذلك إلا بامتلاك رصيد واسع من المفردات، وهذا لا يتأتى إلا عبر قراءة نصوص معقدة. وهذا يعيدنا إلى النقطة الجوهرية: إن القراءة على مستوى أعلى هي تدريب على التفكير التحليلي».

نحن نرى أن من بين الآثار الإيجابية للقراءة على مستوى أعلى ما يرتبط مباشرة بالقدرة على فهم المفاهيم المعقدة، ومناقشة مواقفنا تجاه هذه المفاهيم، بل وفهم حجج من يدافعون عن فكرة مغايرة أو يقترحون حلاً مختلفًا لقضية تهمّنا كمجتمع.

قد يشعر بعضنا، ممن بلغوا سنًّا معينة، بشيء من الدهشة إزاء حقيقة أن صياغة البرامج السياسية قد تقوم على غياب الحجج المبنية على الوقائع، وعلى غياب البحث عن أفضل الحلول للتحديات التي تواجه مجتمعاتنا.

وأعجبني كثيرًا كيف يربط كوفاتش بين عقلانية المجتمع الديمقراطي والعقلانية العلمية، إذ يقول: «أفهم الديمقراطية والعلم بوصفهما وجهين لعملة واحدة: فكلاهما يسعى إلى إضفاء معنى على عالم مضطرب وغير متوقع، لا توجد فيه إجابات جاهزة بالأسود والأبيض. يقوم العلم بذلك عبر فرضيات تُعتبر صحيحة حتى تُفنَّد بوقائع ونظريات جديدة. وبالمثل، نحاول في الديمقراطيات تنظيم المجتمع من خلال السياسات العامة التي نغيّرها إذا وجدنا أنها لا تعمل، أو نبتكر بدائل أفضل منها. ولكي يعمل كلاهما على نحو كامل، يحتاج العلم والديمقراطية إلى حرية التعبير وإلى مفهوم للحقيقة (وأنا لا أراها هنا عقيدة مطلقة، بل معرفة تُعتبر صحيحة حتى تُثبت الوقائع والمنطق عكسها، أي التفكير التحليلي). كلٌّ من حرية التعبير ومفهوم الحقيقة يتعرضان اليوم للتشكيك: فـ«الوقائع البديلة» تحل محل الحقيقة بآراء، وحرية التعبير تتعرض للهجوم من ثقافة الإلغاء و«اليقظة» سواء من اليمين أو اليسار. وتعيد هذه التطورات إلى ذهني ذكريات مخيفة عن شبابي في يوغوسلافيا الاشتراكية».

وأعتقد أنني كلما قرأتُ كتبًا أكثر، وكلما ازدادت تعقيدًا واختلفت عن بعضها البعض، ازددت تقديرًا للقوة الفكرية المحفّزة لأعمال ماكس فيبر، التي اضطررنا إلى تحليلها في كلية الحقوق عندما كنا طلابًا.

وهذا جزء من العلاقة بين القراءة وبعض القيم الإيجابية، مثل أثرها البنّاء في التعايش الديمقراطي. وإذا عقدنا مقارنة مع النظرية الاقتصادية، فإن هذا النوع من القراءة يُنتج «أثرًا خارجياً إيجابياً» في ميدان الديمقراطية (فهو أثر خارجي لأنه ليس الهدف المباشر من القراءة أو من تشجيعها، وهو إيجابي لأن تنامي القدرة على القراءة يؤدي إلى مستوى أعلى من التعايش الديمقراطي).

فلنُدوّن في دفاترنا الخاصة بتعزيز القراءة الفكرة القائلة إن ممارسة القراءة على مستوى أعلى تترك أثرًا إيجابيًا على تطوير تفكيرنا التحليلي، باعتبارها واحدة من أكثر القضايا الإيجابية التي يمكن أن نبذل جهدًا فيها.

يُذكر أن ميها كوفاتش أستاذٌ في قسم علوم المكتبات والمعلومات ودراسات الكتاب بجامعة ليوبليانا. وخلال مسيرته في النشر في أواخر الثمانينيات والتسعينيات، عمل مديرًا للتحرير في أكبر دارين سلوفينيتين للنشر، DZS وMladinska knjiga، كما شغل منصب المدير التحريري للطبعة السلوفينية من مجلة ناشونال جيوغرافيك. وهو مؤلف لأكثر من خمسين مقالة وأربعة كتب حول القراءة وصناعة النشر. ويتركّز اهتمامه البحثي الرئيس على إحصاءات النشر والقراءة. وفي عام 2020 أصدر أول كتبه الموجّهة للجمهور العام بعنوان «اقرأ لتتنفّس» (Read to Breathe) بعدة لغات.