عصر التنوير – والذي يُطلَق عليه أيضاً عصر العقل – هو حركة فكرية وثقافية وفلسفية تطوّرت أساساً في أوروبا خلال القرن الثامن عشر.
كان هدفه المركزي تعزيز العقل والعلم وحرية التفكير كأدوات لتحسين المجتمع، وتحرير الإنسان من الجهل والخرافة والسلطة المطلقة.
وقد وصف إيمانويل كانط، أحد أبرز مفكري تلك المرحلة، التنوير بأنه: «خروج الإنسان من قصوره الذي اقترفه في حق نفسه، ومن خضوعه الكسول والجبان للسلطات الدينية أو السياسية». أما شعاره، فأعلنه قائلاً: «تجرّأ على أن تفهم!»، بينما كان مطلبه الأساسي يتمثّل في حرية الفكر والتعبير.
يُعدّ عصر التنوير محطة محورية في تاريخ الإنسانية، إذ أتاح لنا تطوراً مادياً وفكرياً وعلمياً وإنسانياً غير مسبوق.
قبل عصر التنوير، عاشت البشرية قروناً فيما يُعرَف بالعصور المظلمة، حيث كانت الكنيسة والسلطة السياسية – مجسدتَين في الملوك الذين اعتُبروا مختارين من الله – تتحكم في الفكر والمعرفة. ومن هنا نشأ استخدام صيغة الجمع «نحن» في خطابات الملوك، باعتبار أن أقوالهم كانت تُنسب إلى «الله وأنا»، وهو ما يثير قدراً من السخرية اليوم عندما يحاول بعض السياسيين تمجيد أنفسهم باستخدام هذا الأسلوب.
كانت العقائد الجامدة والخرافات المفروضة من الكنيسة والسلطة السياسية هي القاعدة والقانون. وإذا تجرأت امرأة على التفكير بحرية أو معارضة رجل، فقد تتهم بالسحر وتحرق حية. أما الأرض، فكانت تُعد مركز الكون الذي تدور حوله الشمس والنجوم!
كان معظم الناس أميّين، ولم يكن لدى العامة أي كتب، لأن الطباعة لم تُخترع إلا حوالي عام 1450. ولم يكن الوصول إلى الكتب متاحاً إلا للنبلاء ورجال الدين.
كانت قيمة التنوير الأولى – العقل – جوهرية، لأن عاداتنا في التفكير ليست دائماً عقلانية. وكان مفكرون مثل كانط وسبينوزا وهوبز وهيوم وآدم سميث يدركون تماماً شهواتنا ونزواتنا، لذلك شددوا على ضرورة استخدام العقل.
ومع إعلاء القيمة الثانية – العلم – لم تعد الحقيقة تُستقى من الإيمان والعقائد، بل من الرصد والتجربة.
ومع أن العلم مكّن البشرية من تحقيق تطور لم يسبق له مثيل، إلا أننا نشهد اليوم أصواتاً عديدة، حتى في مراكز السلطة حول العالم، تعمل على تقويض مكانته.
فبعد قرنين من محاولات التحرر من الخرافة، من المؤسف أن كتب التعليم الأساسية في المكسيك تؤكد أن «هناك طرقاً متعددة لتفسير الواقع، والعلم واحد منها فقط، وهناك أيضاً المعرفة الأصيلة المتوارثة». وهكذا، يُساوى بين زيارة شامان بدائي واستشارة طبيب محترف! هذا تهافت مؤلم.
كما يدعو للقلق سماع رئيس أقوى دولة في العالم – وربما لن يبقى كذلك طويلاً – يعلن في خطاب رسمي أمام الأمم المتحدة أن «الاحتباس الحراري أكبر خدعة في التاريخ ارتكبها حمقى». والأخطر أنه، برفقة وزير صحة غير كفء، يؤكد أن اللقاحات تسبب التوحّد!
وقد قال الروائي البرتغالي جوزيه ساراماغو، الحائز على نوبل للآداب عام 1998: «سيأتي اليوم الذي يُحتقر فيه الذكاء ويُعبَد فيه الغباء». ويبدو أن هذا اليوم قد حل فعلاً.
فالحقيقة هي معلومة خالية من العاطفة والأيديولوجيا. والرأي هو معلومة تستند إلى الخبرة. أما الجهل فهو رأي بلا معرفة، والغباء هو رأي ينكر الحقيقة.
ويواصل د. ستيفن بينكر عرضه للقيمة الثالثة التي يدافع عنها: الإنسانية. حيث يقول: «رأى مفكرو عصر العقل والتنوير حاجة ملحّة لتأسيس أخلاق لا دينية، لأن ذاكرتهم كانت مثقلة بقرون من المجازر الدينية: الحملات الصليبية، محاكم التفتيش، مطاردة الساحرات، والحروب الدينية في أوروبا. وقد أسسوا ما نسميه اليوم الإنسانية، القائمة على إعطاء الأولوية لرفاهية الرجال والنساء والأطفال، بدل تمجيد القبيلة أو العِرق أو الأمة أو الدين. إنسانية تفرض معاملة البشر كغايات لا كوسائل».
ومع عصر التنوير، تراجع سلطان العقيدة والخرافة أمام العقل والعلم. ولم نعد نلجأ إلى الكنيسة لمعرفة الحقيقة، بل إلى العلم. وهنا لعبت صناعة النشر دوراً جوهرياً، إذ من خلال الكتب تمت نقل المعرفة العلمية وتداولها.
لكن المشكلة اليوم أن صعود وسائل التواصل الاجتماعي جعل صوت الأكاديمي والعالِم مساوياً لصوت الجاهل الذي يمتلك حساباً على الإنترنت. فأصبحت آراء مراهق على «تيك توك» تُعامَل بوصفها مكافئة لرأي عالم قضى عمره في البحث!
ومع تحوّل الإنترنت إلى «مكب هائل للمعلومات»، كما وصفه أحد المتحدثين، ومع تفشي التضليل والأخبار الكاذبة، أصبحت مهمة الناشرين كحراس للمعرفة العلمية الموثوقة أكثر أهمية من أي وقت مضى.
فالناشرون الأكاديميون حول العالم لديهم آليات دقيقة للتحقق من المحتوى الذي ينشرونه. سمعتهم على المحك مع كل إصدار. ولذا، فإن أفضل مصدر للمعلومات الموثوقة هو كتاب أو مجلة صادرة عن ناشر محترف ومعروف.
ويختتم د. بينكر تأملاته قائلاً: «لن يكون لدينا عالمٌ كامل أبداً، وسيكون من الخطير السعي لخلق عالم كهذا. ولكن لا حدود للتحسينات التي يمكن أن نحققها إذا واصلنا تطبيق المعرفة لتعزيز رفاه البشر».
آمل أن نتبع نصيحته، وأن نترك وراءنا الخرافة وإنكار العلم.