منذ سنوات عديدة، حظيت بفرصة المشاركة في اجتماع بمدينة ترينتو نظّمه اتحاد الناشرين الإيطاليين (AIE)، في إطار مشروع عابر للحدود ممول من الاتحاد الأوروبي. ولا زلت حتى اليوم أذكر بامتنان صديقي بييرو أتاناسيو الذي لفت انتباهي إلى دراسة أعدّها الأستاذان سكوركو وغافيو. كانت هذه الدراسة طولية المدى، تغطي عدة عقود، وهدفت إلى الربط بين التطور التاريخي لمعدلات الإلمام بالقراءة والكتابة في كل منطقة من مناطق إيطاليا ومستويات نصيب الفرد من الدخل في تلك المناطق. وعندما قرأت الدراسة لاحقًا بتأنٍ، وجدتها ملهمة للغاية.

وعندما نُشر البيان الصحفي الصادر عن اتحاد الناشرين الإيطاليين، عدت لأبحث مجددًا عن التقرير الذي أعدّه الباحثان المذكوران، فوجدت مقطعين كنت قد وضعتهما تحت الخط في النص.

الأول كان في خاتمة الدراسة، وجاء فيه:

«تُسهم المقاييس التقليدية لرأس المال البشري ومؤشرات القراءة في تحديد خصائص عملية النمو الاقتصادي. ويؤكد التطبيق العملي لهذه النظرية على حالة الأقاليم الإيطالية، استنادًا إلى تقديرات بارو (Barro regression estimation)، دور القراءة كعامل من عوامل التنمية، ويقدّم مؤشرات كمية على أهميتها.»

أما المقطع الثاني الذي اقتبسته فكان يقول:

«من المعروف أن القراءة تتأثر ضمن محدداتها بمستوى الدخل، الذي يُعد بدوره نتيجةً لعملية النمو الاقتصادي. غير أن الرابط السببي العكسي يظهر بوضوح، وله دلالة تجريبية، وهو أن تراكم المعرفة – من خلال القراءة أيضًا – يمكن اعتباره المحرّك الرئيسي للنمو الاقتصادي وللمستوى الذي يحققه المجتمع من الدخل.»

إن المقارنة بين شمال وجنوب إيطاليا تمتدّ جذورها إلى تاريخٍ طويل، تمامًا كما هو الحال في المقارنة التي دارت على مدى قرنين بين شمال وجنوب أوروبا ككل. ومن الأمثلة البارزة على اهتمام العديد من المفكرين بهذا الموضوع كتاب ماكس فيبر الشهير حول تطوّر الرأسمالية.

ولا أدّعي قدرتي على دحض أو تأكيد نظرية ماكس فيبر، التي درسناها في الجامعة، والتي ترى أنّ الأخلاق الكالفينية القائمة على التقشّف والانضباط كانت المحرّك وراء نشوء الرأسمالية والتصنيع وتكوين الثروة. غير أنّ ما أراه أكثر إثارة للاهتمام هو تحليل أحد العناصر الجوهرية في الديانة البروتستانتية، وهو المبدأ الذي أرساه مارتن لوثر بأنّ على كلّ مؤمن أن يكون قادرًا على قراءة الإنجيل بنفسه.

ومن اللافت للنظر أنّ البلدان البروتستانتية شهدت تحولات لم تعرفها الدول الكاثوليكية بنفس الدرجة، من أبرزها:

  1. ازدهار فروع متعددة من البحث العلمي في مجالات مختلفة.
  2. التنوّع الأيديولوجي والروحي الذي تجلّى في ظهور طوائف دينية متعددة، وتشكّل حركات سياسية متنوعة طالبت تدريجيًا بمساحات للنقاش العام، وصولًا إلى برلماناتٍ وجدت الوسائل للتأثير في حياة الناس.
  3. تطوّر نموذج اقتصادي قائم على التصنيع، كان له دور محوري في بناء الازدهار المادي لتلك المجتمعات.

أنا على قناعةٍ تامة بأن القراءة كانت المفتاح الأساسي في خطوط التطور الثلاثة السابقة، وهي العملية التي في البلدان الكاثوليكية – حيث كانت القراءة لا تزال في ذلك الوقت حكرًا على قلةٍ من النخب المتعلّمة – لم تبدأ فعليًا إلا بعد الثورة الفرنسية والغزوات النابليونية.

ويبدو من المثير للاهتمام أن نأخذ في الاعتبار على الأقل أن القراءة أثبتت كونها عاملًا جوهريًا في التقدّم الاقتصادي الواضح الذي حققته البلدان البروتستانتية مقارنةً بنظيراتها الكاثوليكية.

كما يثير اهتمامي التعرّف أكثر على النظريات الكونفوشيوسية والإرث الثقافي الكوري، اللذين ربما شدّدا تاريخيًا على أهمية التعليم، والتهذيب الأخلاقي، واحترام العلماء، مما أسّس لقيمة اجتماعية راسخة للقراءة. إن هذه العوامل الثقافية والتاريخية تساعد في تفسير سبب ارتفاع معدلات القراءة في كوريا مقارنةً بالدول التي لا تمتلك إرثًا كونفوشيوسيًا مماثلًا.

ولا أعتقد أنّ من الخطأ التأكيد – عند الحديث مع السياسيين ووسائل الإعلام – على العلاقة الوثيقة بين معدلات القراءة في أي بلد وقدرته على أن تكون محرّكًا للنمو الاقتصادي.